الأسير الفلسطيني… رجلٌ يربط الزمن بمعصمه ويعلّم الضوء كيف ينهض من العتمة
نشر بتاريخ: 2025/12/29 (آخر تحديث: 2025/12/29 الساعة: 17:11)

في التاريخ حكاياتٌ تُروى بأصواتٍ عالية، تُعلّق على الجدران، وتُرفع في المواكب، وتُكتب في المقررات، وتتناقلها الشعوب كما تتناقل وصايا الأسلاف. لكنّ هناك حكاية أخرى لا تصل عادةً إلى المنابر، حكاية تُروى همساً، وتُحمل في الضمير أكثر مما تُحمل في الذاكرة: حكاية الأسير الفلسطيني. ذاك الذي لم يختر البطولة مصادفة، ولم يطلب أن يكون رمزاً، لكنه وجد نفسه في قلب المشهد، واقفاً عند تخوم الضوء، يكتب بذراعيه طريقاً نحو فجرٍ لم يأتِ بعد.

الأسير الفلسطيني ليس صورةً على ورق، ولا رقماً في تقريرٍ إنساني، ولا وجهاً باهتاً في شريطٍ إخباري. إنه وعيٌ كامل يتجسّد في إنسان، عبر كلماته، وصمته، وخطواته المقيدة، ونظرته التي تتسع أكثر مما تسمح به المسافة بين القضبان. إنّه الفكرة التي لم تستطع العتمة أن تُخمدها، والنبض الذي لم تتعلم الأيام كيف توقفه، والظلّ الذي صار جسداً يمشي فوق الخط الفاصل بين الحرية والقيد، بين الحلم والانتظار، بين الزمن واللازمن.

يعلّمنا الأسير الفلسطيني درساً عميقاً: أنّ الجسد قد يُحاصر، لكن الروح لا تُحاصر إلا إذا سمحت هي بذلك. وأنّ الأبواب الحديدية مهما أُحكمت، فإنّ نافذة واحدة في القلب كافية لتقلب معادلة العتمة. وأنّ الكرامة لا تُستعار من أحد، بل تُصنع داخل الإنسان، في لحظات مواجهة الذات، حين يختبر كل ما يؤمن به.

ولأن الأسير الفلسطيني ليس حدثاً عابراً في المشهد الفلسطيني، بل مؤسسة روحية وثقافية واجتماعية، فإن الحديث عنه لا يشبه الحديث عن غيره. فهو ليس فرداً فقط، بل هو أُمةٌ صغيرة تمشي في جسد واحد. كل أسير يحمل في صدره خيمةً من الذاكرة، ومدينةً من الوجوه، وشارعاً من الخطوات التي كان يمكن أن يمشيها لولا قرار واحد غيّر شكل حياته.

ومع هذا، لم يصبح الأسير ضحيةً داخل الرواية الفلسطينية؛ بل صار بطلاً إنسانياً، لا لأنه يحمل القوة، بل لأنه يحمل الإصرار. لا لأنه يصنع المعجزات، بل لأنه يرفض الاستسلام. لا لأنه يقف على أرضٍ واسعة، بل لأنه يعرف كيف يجعل من الخطوة الضيقة وطناً مؤقتاً.

في كل أسير صورةٌ ما لا نراها. صورة لأمٍ تنتظر على العتبة، لصديقٍ يقرأ الأخبار بصوت خافت، لمدينةٍ لا تزال تحفظ وطأة قدميه على أرصفتها، ولأبٍ يحاول ألّا يشيخ قبل موعد اللقاء. الأسير الفلسطيني ليس وحده هناك، بل تحرسه شبكة طويلة من الحبّ والقلق والدعاء، تمتد في كل الاتجاهات مثل نهرٍ لا ينضب.

ولعلّ أجمل ما في شخصية الأسير ليس صموده الخارجي، بل مقاومته الصامتة: مقاومةٌ تهزم الوقت كل يوم، وتعيد تشكيل معنى الانتظار، وتحوّل الوجع إلى حصنٍ داخلي تتكيّف معه الروح. فالأسير لا يقيس الزمن بالأيام، بل بـ ما تبقّى في داخله من نور. ولا يقيس المسافة بالمتر، بل بالخطوة التي تؤمن بأن هناك باباً آخر سيُفتح ذات يوم.

في رسائل الأسرى نكتشف الوجه الأكثر صدقاً للإنسان: كلمات تكتب بالحدس أكثر مما تكتب بالحبر، وتتشكّل من خليطٍ نادر بين القوة والحنين، بين الرجاء واليقين. الرسائل هي الجسر الذي يعبر فوق الأسوار، الجسر الذي لا يمكن لأحد أن يمنعه من الوصول. فيها نرى الأسير كما هو: إنسان يتكوّن نصفه من صلابة، ونصفه الآخر من رقّة عميقة لا يستطيع أن يخونها.

وتحمل الرسائل في طياتها شيئاً يشبه الدهشة: كيف يمكن لمن يعيش في أقسى الظروف أن يمتلك هذه القدرة على خلق الجمال؟ كيف يستطيع الأسير، وهو في مواجهة يومية مع ضيق المكان، أن يكتب جملةً كأنها نافذة مفتوحة على البحر؟ وكيف يمكن لمن يُحاصَر جسده أن يُطلق أفكاراً تسافر في السماء بلا قيود؟

ولأنّ الأسر تجربة تستنزف النفس، فإنّ المقاومة الحقيقية تبدأ من الداخل. الأسير الفلسطيني يعيد ترتيب ذاته كل يوم، كمن يعيد ترتيب غرفةٍ صغيرة كي يتّسع فيها العالم كله. يُجري إصلاحات داخلية في صمته، يرمّم أجزاءه المتعبة، ويملأ شقوق قلبه بأمنيات جديدة. إنه أشبه بشجرةٍ تعلّمت أن تنمو في الصخور، لا تقلّ جمالاً عن الأشجار التي تنمو في الحقول المفتوحة، بل أكثر دهشةً ودهشة.

إنّ الخطر الأكبر على الأسير ليس السجن، بل أن يفقد القدرة على الحلم. لذلك نراه يصرّ على الاحتفاظ بأحلامه كما يحتفظ المرء بقطعة خبزٍ في جيبه. يحلم ببيتٍ صغير، بطريقٍ يمشي فيه بلا خوف، بصوتٍ يوقظه صباحاً، بسماءٍ لا يقطعها سياج. يحلم لأنه يعرف أن الحلم هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن مصادرته.

ولعلّ أكثر لحظات الأسير شاعريةً هي تلك التي يسمع فيها العالم من بعيد، في الأخبار، أو في رسائل تصل متأخرة. يسمع عن مواسم الزيتون، عن المطر الأول، عن طفلةٍ وُلدت في العائلة، عن شارعٍ أُعيد فتحه، عن مدرسةٍ تغيّر لون جدرانها. يسمع كل ذلك من وراء القضبان، فتختلط في قلبه حسرةٌ صغيرة مع ابتسامةٍ واسعة، كأنه يتذكّر أنه جزءٌ من هذا العالم رغم المسافة.

والأسير الفلسطيني ليس كائناً معزولاً، بل هو ابن مجتمعٍ يأبى النسيان. مجتمعٌ يعرف معنى الوفاء، ويحمل الأسرى في قلبه كما يحمل أسماء المدن والأنهار. فالأسير ليس غريباً عن الناس، بل هو جزء من ذاكرتهم ورائحتهم وصوتهم. كل بيتٍ في فلسطين يعرف أسيراً أو ينتظر واحداً أو يروي سيرة واحد. وهذا الارتباط العميق بين الأسير وشعبه يجعل من القضية أكبر من حدود الفرد؛ إنها قضية هويةٍ وكرامةٍ ووجود.

ورغم كل الظروف، يبقى الأسير مثالاً على قدرة الإنسان على الانتصار على المستحيل. فهو يعيش في مساحة ضيقة، لكنه يوسّعها بمخيلته. يقف داخل غرفة صغيرة، لكنه يرى العالم كما يراه الطير من أعلى. يمشي خطوات قليلة يومياً، لكنه يعرف أن التاريخ ذاته يمشي نحوه.

إن الأسر، في جوهره، حالة اختبار للروح. بعض البشر ينهارون عند أول هزة، لكن الأسير الفلسطيني يقف وكأنه الجدار الأخير في المدينة. تُغلق الأبواب في وجهه، لكنه يفتح باباً داخلياً لا يراه أحد. تُطفأ الأنوار، لكنه يشعل ضوءاً صغيراً في صدره، ضوءاً يكفيه ليكمل الطريق.

ولأن الأسير رمز، فإنه يتجاوز حدود اللحظة، ويتحوّل إلى مرآة يرى فيها العالم شكل الحقّ حين يُستنزف، وشكل الصمود حين يُختبر. إنه معادلةٌ إنسانية تقول إن الجرح ليس نهاية، بل بداية لمعرفة جديدة. وإن الخوف ليس قدراً، بل حالة يتجاوزها الإنسان حين يملك الشجاعة. وإن الكرامة ليست شعاراً، بل ممارسة يومية، وصبرٌ طويل، وقلبٌ لا يتراجع مهما تآمرت عليه الظروف.

الأسير الفلسطيني كائن من الضوء، لا لأن وجوده سهل، بل لأن بقاءه في الظلام جعله يعرف قيمة النور أكثر من أي شخص آخر. هو يمشي في ممرات ضيقة، لكنه يترك وراءه أثراً واسعاً. يحدّق في جدارٍ واحد كل صباح، لكنه يرى فيه نافذة. يسمع صدى خطواته، لكنه يتخيّل معها أصوات الأحبة.

وعندما يخرج الأسير إلى الشمس بعد سنوات، تتغير ملامحه قليلاً، لكن روحه تبقى كما هي: صافية، عالية، وفية للحلم. يكون كمن عاد من رحلةٍ طويلة في البرية، يحمل على كتفيه غبار المسافات، لكنه يحمل أيضاً يقيناً جديداً بأن الإنسان لا يُهزم بسهولة. يمشي نحو عائلته،