لكي لا يقول أحد: لماذا لم ترفعوا الصوت؟!
نشر بتاريخ: 2025/12/29 (آخر تحديث: 2025/12/29 الساعة: 15:17)

قلنا في المقال السابق: «حالتنا في بعض مظاهرها «تصعب على الكافر»!

إن هذه المظاهر تضرّ بالسلطة الوطنية الفلسطينية، وتلحق بها خسائر كبيرة، خطيرة وحسّاسة، وإنها ستدفع ثمناً باهظاً إذا لم تتراجع عن هذه المظاهر.

يذهب بعض الأوساط، وبعض الأقلام المتطرّفة أحياناً، إلى اعتبار تحلّل السلطة الوطنية أو تفكّكها وكأنه في مصلحة الشعب الفلسطيني، طالما أن سياساتها باتت مكرّسة للاستجابة غير المشروطة للضغوط الأميركية والإسرائيلية، وما ينتج عن هذه الاستجابة من ضرر كبير يلحق بوحدة المجتمع، وما تؤدّي إليه هذه الاستجابة من تآكل في الحقوق والأهداف الوطنية.

ويذهب بعض هذه الأوساط إلى حدود أبعد، بأن ترى في بقاء السلطة الوطنية على ما هي عليه من دور ومكانة وسياسات، وما تؤدّيه من أدوار عائقاً أمام فتح الكفاح الوطني ضد الاحتلال على مصراعيه، خصوصاً أن دولة الاحتلال تسعى بكل ما تمتلك من قدرات وإمكانات وأدوات إلى حسم الصراع، وإلى تصفية القضية الوطنية من كل جوانبها.

لكن الحقيقة هي عكس ذلك، لأن تحلّل وتفكّك السلطة الوطنية هو في الواقع أكبر خدمة للمشروع الصهيوني، ليس بسبب ما تقوم به من دور في مجابهة أدوات دولة الاحتلال وسياساتها، لأن دورها هنا عليه ألف ملاحظة وملاحظة، وإنما بسبب أنها هي جزء عضوي من حالة الكيانية الوطنية، وهي جزء عضوي من شرعية هذه الكيانية، وهي بالتالي وبصرف النظر عن العلاقة المختلّة بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية جزء عضوي من حالة التمثيل المستهدفة مباشرة من دولة الاحتلال، ومشروعها التصفوي للقضية الوطنية.

هذه معادلة دقيقة، وليست، ولا يجوز بالمطلق أن تخضع لأي اعتبارات حزبية خاصة، أو أهواء سياسية فئوية، أو حتى لرؤى ثقافية وفكرية تحاول أن تجتهد وتتمايز عن غيرها.

في الآونة الأخيرة، وخصوصاً خلال حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية، والتي ما زالت مستمرة بأشكال ووسائل جديدة، ويتم استحداث المزيد منها، بدت مواقف وممارسات وأُطروحات السلطة الوطنية «متراخية وانتظارية»، وكادت تكون سياساتها أقرب إلى «الانسجام والتناغم» مع الحالة العربية والإسلامية المتخاذلة إزاء حرب الإبادة، وهو ما عزّز من صعود نغمة «الخلاص والتخلّص» من «العبء» الذي تمثّله السلطة الوطنية على كاهل مشروع التصدّي لمشروع التصفية الصهيوني، وأشاع مثل هذه الأطروحات العدمية المتسرّعة.

عند هذا الحدّ لم نكن أمام حالة طوارئ شعبية، وكانت الإشارات باللون الأصفر، لكن بعض المظاهر في حالتنا الوطنية، والتي وصفناها بأنها «تصعب على الكافر» بدأت تتهيّأ ــ كما أرى ــ إلى اللون الأحمر، وقد ندخل بصورة سريعة، وربما مباغتة بحالة طوارئ جديدة من أعلى الدرجات وبالإشارات الحمراء الفاقعة.

من بين هذه المظاهر كل هذا الوضع الذي نعيشه هذه الأيام حول مخصّصات الشهداء والجرحى والأسرى، والدور الذي أُسند لمؤسسة «تمكين» بالالتفاف على حقوقهم الشرعية.

وحتى نضع الأمور في سياقاتها الحقيقية، وفي إطارها المنطقي فقد حاولت السلطة الوطنية تحت ضغوط هائلة من دولة الاحتلال، ومن أعوان الأخيرة أن تلتفّ على هذه الضغوط بالبحث عن أشكال ووسائل جديدة بتغيير آليات الدفع لهذه المخصّصات لكنها لم تتمكّن من «إقناع» الأوروبيين على الأقل، ناهيكم عن الاحتلال وعن الولايات المتحدة، ولم تعد السلطة قادرة الآن على التملّص من الضغوط لأنها لم تقاومها منذ البداية، ولأنها أعلنت عن استعدادها لقبول كل شروط الإصلاح دون مقاومة حقيقية، ولم تلجأ إلى شعبها قبل إعلانها عن قبول كل الإصلاحات، ولأنها ما زالت تعتبر أن شرعيتها الخارجية بالبقاء هي الأولوية الأولى، وحتى أنها لم تعد ترى أن شرعيتها الشعبية هي السلاح الأقوى الوحيد الذي يحميها بالبقاء، ويقوّيها في مقاومة الضغوط والشروط.

وفي حالة مخصّصات الشهداء والأسرى والجرحى، وحالة «المناهج» رضخت دون مقاومة حقيقية، ودون العودة إلى المؤسّسات الشرعية، ودون أي آليات حوار وطني نظراً للطابع الحسّاس بل المصيري لمثل هذه المسائل.

والأصل ألا تقبل السلطة الوطنية بمبدأ العبث، لا بالمخصّصات، ولا بالمناهج إلّا على قاعدة واضحة وملموسة من نصوص القانون الدولي وذلك لأنه فقط في مثل هذه الحالة يصبح للقوانين، وللاتفاقيات الدولية أولوية النفاذ والإنفاذ على القوانين الوطنية.

حق مقاومة الاحتلال هو مُصان في القانون الدولي طالما أنه يأتي في إطاره، وبكل الوسائل التي يقرّها هذا القانون الدولي.

وعندما نرضخ للمطالبات الإسرائيلية، والتي يتبنّاها «الغرب» في أميركا، وفي أوروبا فإننا ــ إذا لم نقاوم هذه المطالبات ــ سنتجرّد تباعاً من كل ما هو تحرّري، ومن كل ما هو وطني، لأن هذا التجريد هو الهدف المعادي، وهو ليس له نهاية، ولأنه لن يتوقّف أبداً عند أيّ حدّ، وكل ما يعِدُون به مقابل «الإصلاحات» هو أكاذيب في أكاذيب، وخِدَع وراء خِدَع، وفُتات وراء فُتات، و»اعترافات» ليس من ورائها أي التزامات جوهرية، وكلّها تأتي في إطار جرّ واستجرار الحالة الوطنية حتى تتطابق وتتكامل مع آليات تصفية مشروعنا الوطني، وتحويل حقوقنا الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرّف إلى مجرّد احتياجات معيشية مقيّدة في جغرافيا من المنعزلات السكانية التي سيتم تحويلها إلى تجمعات بدلاً عن المجتمع، وسيتم نزع هويّتها الوطنية بعد استكمال التجريد.

والأخطر في هذا الشأن أن هذا الخضوع الفلسطيني للشروط ليس في مسلسل التبعات فقط وإنما ــ وهذه هي الطّامة الكبرى ــ في تحويل الرواية الفلسطينية من رواية تحرّرية حقيقية، بدأ العالم كلّه بتبنّيها وتفهّم ما تعرّضت له من تشويه، والوقوف مع عدالتها وصدقيتها إلى قضية معيشية، وإلى حالة وجود وبقاء تتسوّل شروط هذا البقاء.

كما يعني هذا الخضوع في الحالتين، حالة المخصّصات وحالة المناهج المشاركة بوعي أو بغيره في تشويه الوعي والقيم الوطنية، وخصوصاً قيم الدفاع عن الوطن والشعب والتضحية في سبيل الكرامة والحرية والاستقلال، بحيث يصبح افتداء هذه القيم خالياً ومجرّداً من الوازع والحافز والدافعية بكل اعتباراتها الوطنية والقومية والدينية، وحتى الإنسانية.

يشعر المجتمع الفلسطيني بمهانة غير مسبوقة، وذلك لأن القيم الكفاحية للشعب الفلسطيني، وتقاليده العريقة في هذا الكفاح هي مكوّن كبير من مكوّنات هذه الهويّة، بل إن الهويّة الوطنية الحديثة قد تبلورت في سياق هذه التقاليد بالذات.

وتشعر عائلات الأسرى والشهداء والجرحى بأعلى درجات الأسى وهي ترى أنها تتحوّل إلى «حالة اجتماعية» بشروط مذلّة.

بعد عقود من النمط السلبي في الأداء، وبعد تجارب مريرة عن الكيفية التي يتعامل بها التحالف الصهيوأميركي «الغربي» مع حقوقنا الوطنية، تفقد الناس الثقة، ويتواصل انحدارها مع تواصل غياب التراجع والمراجعة، ومع الإصرار، بل الذهاب بعيداً وعميقاً في نفس الأداء، وفي ظل حالة الحصار الإسرائيلية لشعبنا وحرمانه من أبسط شروط الحياة وشروط الكرامة الإنسانية لا يمكن للمجتمع الفلسطيني أن يقف متفرّجاً بانتظار «القدر» الإسرائيلي، ولا بانتظار أن يصحو الضمير «الغربي» المنافق إلى درجة العُهر، لأن الأمور تجاوزت حدود كل صبر، وكل عقلانية وواقعية، وكل حدود التحمّل.

انحدار الثقة عند درجة معيّنة من تفاقمها يؤدّي عاجلاً أو آجلاً ــ والأمر الآن هو عاجل فقط ــ إلى فقد الثقة بالشرعية وبكل أنواع الشرعيات، حتى لا نتحدث عن الثقة بالأشكال «الديمقراطية» للإصلاح، وتجاوز الفساد وسوء الإدارة والأداء.